مار أغناطيوس دي لوبولا
في عصر قلق روحي وسياسي واجتماعي كانت فيه أوروبا مهدّدة بحروب ذات طابع ديني بين جيوش الأتراك من جهة والبندقية وبعض الدول الأوروبية من جهة أخرى.
وفي غمرة تيّار الإصلاح الديني الذي حملت لواءه الحركة البروتستانتية، وما سبّب من بلبلة في الكنيسة الغريبة،
وعشية القطيعة بين العرش البريطاني والكرسي الرسولي الروماني على يد الملك هنري الثامن عام 1535.
في عصر تحققت فيه اكتشافات جغرافية بالغة الأهمية: أميركا على يد كريستوف كولومب، وطريق الهند على يد فاسكو دي غاما، اكتشافات وسّعت آفاق الناس وشجّعت على إرساء علاقات بين القارات والشعوب.
وكانت الكنيسة في حاجة ماسّة إلى تجديد داخلي وإعادة تنظيم يعزّز فيها الانضباط ويعيد إلى إكليروسها الروح الإنجيلية، عشية المجمع التريدانتيني.
فقادت العناية الإلهية بطرق خفية وأسباب متنوعة رجل أحلام وطموح كان يتوق إلى المغامرات والفروسية.
وُلد في قصر لويولا عام 1491 وعاش في بلاط نائب ملك نافار. وحدث أن سقط أمام حصون بامبولون في 28/3/1521 بعد أن أصيب بجرح بليغ في ساقه (وتحضرنا أمام هذه الواقعة سقطة شاؤول من على جواده وهو في طريقه إلى دمشق) فنقل إثر ذلك إلى مسقط رأسه لويولا. هذا الرجل هو انيغو دي لويولا.
أُتيح له أن يقرأ في فراشه حياة يسوع فيرتد إلى الله، ويؤخذ بهذا القائد الذي جذب الناس بروحانية غريبة تركّزت على محبة الله للبشر، وسحرهم بمحبته وإنصرافه لخدمتهم حتى الموت في سبيلهم. وأخذ يتساءل: ما قام به قديسون عظام بالرغم من ضعفهم وفقرهم، لخدمة هذا القائد العظيم، من أمثال القديس عبد الأحد والقديس فرنسيس الأسيزي، لماذا لا أقوم به أنا؟!
رجل أحلام وطموح، قاده اختباره الزمني الفروسي إلى إختبار قائد يسمو على كل فادة العالم، ذي هيبة ورحمة يدعو الناس إلى خدمة رسالته، يشعر المرء بقربه بجاذبية وسحر يملآن قلبه غيرة وسلاماً.
وبعد تفكير، توجّه انيغو إلى دير الحبساء البندكتان في مونسرّاه وقضى ثلاثة أيام بالصلاة وفحص الضمير وكتابة خطاياه. وسهر ليلة كاملة ساجداً للقربان الأقدس. وعند الصباح في 21/3/1522 اعترف بخطاياه بدموع التوبة. ثم خلع ثيابه وأعطاها لفقير. واستبدلها بثوب من الخشن، تاركاً سيفه وخنجره ليُعلّقا في كنيسة الدير أمام أيقونة العذراء. وفي 25/3/1522عيد البشارة تناول جسد الرب.
وأقام بعدئذ في مدينة مانريز. وكان يتردّد على مغارة ويقضي فيها الساعات الطوال راكعاً ومتأملاً ومصلياً بحالة انخطاف. وقد استرعى انتباه سكان منريز تقوى وخشوع وتقشّف هذا المتسوّل الذي حين كان يطلب الصدقة لم يكن يقبل اللحم والخمرة وكان يقضي قسماً من وقته في معالجة المرضى. وفي المغارة أُنعم عليه بإيحاءات أساسية لتدوين رياضاته الروحية.
وقد اكتشف في مانريز أن التركيز على الأعمال الروحية الخارجية يقود إلى الغرور، وأن من الأفضل أن يركّز على الحياة الباطنية والفضائل الروحية وبخاصة التواضع والصبر والمحبة. إذ بدون هذه الفضائل الثلاث تضحي الأعمال سطحية بدون عمق روحي.
ويدخل انيغو في صراع داخلي بينما هو مثابر على الصوم والصلاة. فيشعر وكأنه قد انتقل إلى الجحيم. وأخذ يسمع صراخ الهالكين وكأنه على وشك اللحاق بهم. فيختار الفقر والتجرّد من المال ويقرّر السفر إلى القدس دون مال.
قضى في القدس سنة 1523 وهو يتتبّع خطى المخلص ويحاول أن يتعرّف أكثر إليه ويقتدي به. وحلم بالبقاء في القدس. وألتحق بمدرسة ابتدائية وهو في الثانية والثلاثين من عمره ليتعلّم اللغة اللاتينية مع الأطفال.
وفي العام 1526 توجّه إلى الكالا ثم إلى سلمنكا. ولكنه اضطر إلى مغادرة اسبانيا بسبب مضايقات محاكم التفتيش واتجه إلى باريس، حيث نزل في الحي اللاتيني وله من العمر سبع وثلاثين سنة. فدرس في كلية الاداب ثم في كلية القديسة بربارة الفلسفية. فنال درجة الدكتوراه سنة 1538.
وفي الجامعة تعرّف على شبان طلاب جذبهم بإيمانه ومحبته فاختاروا مشاركة انيغو حياته وأخذوا يقومون تباعاً بالرياضيات الروحية، منهم بيير فافر الذي اقتبل بعدئذ الرسامة الكهنوتية، وفرنسيس كسفاريوس الذي أصبح قديساً ومن أعظم المرسلين شهرة في تاريخ الكنيسة. وفي 15/8/1534 أبرزوا نذورهم الشخصية خلال قداس أقامه أحدهم الأب بيير فافر. ثم بعد أن أصبح عددهم ستة نالوا جميعاً الرسامة الكهنوتية.
واتجه الأخوة الستة إلى القدس ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب الحرب الدائرة بين الأتراك وجمهورية البندقية فقرّروا السير إلى روما على الأقدام عبر جبال سويسرا والتيرول وفينيسيا. وقابل الأخوة الستة البابا بولس الثالث في 8/11/1538 ووضعوا أنفسهم بتصرّفه للرسالة التي يختارها. واتفقوا على اختيار رئيس من بينهم يبرزون بين يديه الطاعة للبابا، وينصرفون تحت قيادته إلى تعليم الشعب وصايا الله وعقائد الإيمان وتربية الأطفال.
وهكذا رُسمت خطوط الرهبنة التي سُميت رهبنة يسوع، فصارت جمعية رهبانية، فيها علاوة على النذور الثلاثة: الفقر والطاعة والعفة، نذر رابع هو الطاعة للبابا. وبعد التداول مدة ستة أشهر كتب أغناطيوس الانطاكي، ملخّصاً لقوانين الرهبنة ليقدمه للبابا، فأتت براءة التثبيت في 27/9/1540 وبعد سنة قُبل أغناطيوس الرئاسة العامة للرهبنة بعد أن اعتذر طويلاً بدافع من تواضعه.
فانطلقت الرهبنة اليسوعية، وحقلها العالم بأسره، وسلاحها محبة المسيح والطاعة له بشخص نائبه على الأرض بابا روما، وبرعاية رئيسها العام. وكأنها فرقة طوارئ أبداً مستعدة لتلبية حاجات الكنيسة ونداء رئيسها المنظور.
وخلال خمسة عشر عاماً قضاها أغناطيوس على رأس الرهبنة كان على صلة وثيقة مع كافة رهبانه من خلال رسائل كان يوجهها لكل واحد، من روما، بلغ عددها /6800/ رسالة، تحمل كلها توجيهات للآباء والأخوة وتشركهم في حياة الرهبنة. واستطاع في هذه الفترة إرساء أسس الرهبنة وتوزيع رهبانه في أرجاء العالم: في الهند واليابان وحتى أبواب الصين، وفي البرازيل والكونغو وموريتانيا وأثيوبيا وبولونيا وبوهيميا، بالإضافة إلى فرنسا والبرتوغال وألمانيا واسبانيا.
وحين توفي أغناطيوس في 31/7/1556 كان عدد رهبانه ألف راهب. مات وحيداً بلا مسحة مرضى أو بركة البابا، ولا كلمة وداع لذويه. هو لم يفاجأ بموته وإنما فاجأ الآخرين. وهكذا ختم بالتضحية حتى الموت حياته الخصبة.
ما خلّفه أغناطيوس لرهبنته: محبة سخية للمسيح، وغيرة متّقدة لخدمة الكنيسة، وانصياعاً مطلقاً لسلطة نائب المسيح على الأرض. هذه الغيرة حملت الرهبنة على التطوع لخدمة الإنسان في شتى الحقول: الروحية والفكرية والاجتماعية.
فكأنما الله أتاح للكنيسة والعالم في ظروف صعبة رهبانية جديدة أشبه بجيش أو بسريّة، من حيث انضباطها وطواعيتها، لتلبية حاجات الكنيسة في العالم كله. لها من الثقافة والروحانية والمرونة ما يمكّنها من التلاؤم وأوضاع وحاجات النفوس، وما يساعدها على التغلغل في شتى الأطر الاجتماعية والفكرية لنفحها بروح الانجيل.
وقد نعمنا في الشرق العربي بخدمات وتضحيات الرهبنة اليسوعية التي يدين لها اكليروسناً بنسبة عالية بثقافته الروحية واللاهوتية، بفضل جامعة القديس يوسف في بيروت التي كانت منارة ساطعة في هذه الربوع. كما أن دور الرهبنة في الحقل الفكري من حيث التأليف والنشر كان هاماً جداً من خلال مفكرّيها ومطبعتها.
وقد شهدت مدينة حلب أول وفود اليسوعيين إلى الشرق في عام 1625. وكان لهم اليد الطولى في شتى النشاطات الروحية والفكرية والتربوية، من تنظيم التعليم المسيحي في الرعايا والبيوت بدءاً من عام 1887، وتأسيس جمعية مار منصور في 24/7/1898، وافتتاح ثانوية القديس أغناطيوس، واحضار راهبات القلبين الأقدسين لفتح مدرسة الإناث، وتأسيس مدرسة القديس وارطان في الميدان، وإرشاد النادي الكاثوليكي. عدا نشاطاتهم في حقل الرياضيات الروحية ولقاءات الشبيبة والعائلات.
ولا ننسى ما تقوم به شعلة حلب برعاية الآباء اليسوعيين من الأب نيران إلى الأب دي ليو من عمل رسولي رائع في الريف المسيحي. وما تقوم به أيضاً الرهبنة على سبيل المثال لا الحصر من خدمات لبعض ا لرعايا المحرومة من تواجد كهنة، في الجبال المشرفة على تلكلخ وطرطوس واللاذقية.
نشكر الله مع آباء الرهبنة على ما أسبغه من نِعَم على رهبنة كانت ولا تزال بركة في الكنيسة. ونسأله تعالى أن يمدّها بعونه لمتابعة رسالتها لمجده تعالى وخير النفوس وازدهار الكنيسة. آمين
في عصر قلق روحي وسياسي واجتماعي كانت فيه أوروبا مهدّدة بحروب ذات طابع ديني بين جيوش الأتراك من جهة والبندقية وبعض الدول الأوروبية من جهة أخرى.
وفي غمرة تيّار الإصلاح الديني الذي حملت لواءه الحركة البروتستانتية، وما سبّب من بلبلة في الكنيسة الغريبة،
وعشية القطيعة بين العرش البريطاني والكرسي الرسولي الروماني على يد الملك هنري الثامن عام 1535.
في عصر تحققت فيه اكتشافات جغرافية بالغة الأهمية: أميركا على يد كريستوف كولومب، وطريق الهند على يد فاسكو دي غاما، اكتشافات وسّعت آفاق الناس وشجّعت على إرساء علاقات بين القارات والشعوب.
وكانت الكنيسة في حاجة ماسّة إلى تجديد داخلي وإعادة تنظيم يعزّز فيها الانضباط ويعيد إلى إكليروسها الروح الإنجيلية، عشية المجمع التريدانتيني.
فقادت العناية الإلهية بطرق خفية وأسباب متنوعة رجل أحلام وطموح كان يتوق إلى المغامرات والفروسية.
وُلد في قصر لويولا عام 1491 وعاش في بلاط نائب ملك نافار. وحدث أن سقط أمام حصون بامبولون في 28/3/1521 بعد أن أصيب بجرح بليغ في ساقه (وتحضرنا أمام هذه الواقعة سقطة شاؤول من على جواده وهو في طريقه إلى دمشق) فنقل إثر ذلك إلى مسقط رأسه لويولا. هذا الرجل هو انيغو دي لويولا.
أُتيح له أن يقرأ في فراشه حياة يسوع فيرتد إلى الله، ويؤخذ بهذا القائد الذي جذب الناس بروحانية غريبة تركّزت على محبة الله للبشر، وسحرهم بمحبته وإنصرافه لخدمتهم حتى الموت في سبيلهم. وأخذ يتساءل: ما قام به قديسون عظام بالرغم من ضعفهم وفقرهم، لخدمة هذا القائد العظيم، من أمثال القديس عبد الأحد والقديس فرنسيس الأسيزي، لماذا لا أقوم به أنا؟!
رجل أحلام وطموح، قاده اختباره الزمني الفروسي إلى إختبار قائد يسمو على كل فادة العالم، ذي هيبة ورحمة يدعو الناس إلى خدمة رسالته، يشعر المرء بقربه بجاذبية وسحر يملآن قلبه غيرة وسلاماً.
وبعد تفكير، توجّه انيغو إلى دير الحبساء البندكتان في مونسرّاه وقضى ثلاثة أيام بالصلاة وفحص الضمير وكتابة خطاياه. وسهر ليلة كاملة ساجداً للقربان الأقدس. وعند الصباح في 21/3/1522 اعترف بخطاياه بدموع التوبة. ثم خلع ثيابه وأعطاها لفقير. واستبدلها بثوب من الخشن، تاركاً سيفه وخنجره ليُعلّقا في كنيسة الدير أمام أيقونة العذراء. وفي 25/3/1522عيد البشارة تناول جسد الرب.
وأقام بعدئذ في مدينة مانريز. وكان يتردّد على مغارة ويقضي فيها الساعات الطوال راكعاً ومتأملاً ومصلياً بحالة انخطاف. وقد استرعى انتباه سكان منريز تقوى وخشوع وتقشّف هذا المتسوّل الذي حين كان يطلب الصدقة لم يكن يقبل اللحم والخمرة وكان يقضي قسماً من وقته في معالجة المرضى. وفي المغارة أُنعم عليه بإيحاءات أساسية لتدوين رياضاته الروحية.
وقد اكتشف في مانريز أن التركيز على الأعمال الروحية الخارجية يقود إلى الغرور، وأن من الأفضل أن يركّز على الحياة الباطنية والفضائل الروحية وبخاصة التواضع والصبر والمحبة. إذ بدون هذه الفضائل الثلاث تضحي الأعمال سطحية بدون عمق روحي.
ويدخل انيغو في صراع داخلي بينما هو مثابر على الصوم والصلاة. فيشعر وكأنه قد انتقل إلى الجحيم. وأخذ يسمع صراخ الهالكين وكأنه على وشك اللحاق بهم. فيختار الفقر والتجرّد من المال ويقرّر السفر إلى القدس دون مال.
قضى في القدس سنة 1523 وهو يتتبّع خطى المخلص ويحاول أن يتعرّف أكثر إليه ويقتدي به. وحلم بالبقاء في القدس. وألتحق بمدرسة ابتدائية وهو في الثانية والثلاثين من عمره ليتعلّم اللغة اللاتينية مع الأطفال.
وفي العام 1526 توجّه إلى الكالا ثم إلى سلمنكا. ولكنه اضطر إلى مغادرة اسبانيا بسبب مضايقات محاكم التفتيش واتجه إلى باريس، حيث نزل في الحي اللاتيني وله من العمر سبع وثلاثين سنة. فدرس في كلية الاداب ثم في كلية القديسة بربارة الفلسفية. فنال درجة الدكتوراه سنة 1538.
وفي الجامعة تعرّف على شبان طلاب جذبهم بإيمانه ومحبته فاختاروا مشاركة انيغو حياته وأخذوا يقومون تباعاً بالرياضيات الروحية، منهم بيير فافر الذي اقتبل بعدئذ الرسامة الكهنوتية، وفرنسيس كسفاريوس الذي أصبح قديساً ومن أعظم المرسلين شهرة في تاريخ الكنيسة. وفي 15/8/1534 أبرزوا نذورهم الشخصية خلال قداس أقامه أحدهم الأب بيير فافر. ثم بعد أن أصبح عددهم ستة نالوا جميعاً الرسامة الكهنوتية.
واتجه الأخوة الستة إلى القدس ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب الحرب الدائرة بين الأتراك وجمهورية البندقية فقرّروا السير إلى روما على الأقدام عبر جبال سويسرا والتيرول وفينيسيا. وقابل الأخوة الستة البابا بولس الثالث في 8/11/1538 ووضعوا أنفسهم بتصرّفه للرسالة التي يختارها. واتفقوا على اختيار رئيس من بينهم يبرزون بين يديه الطاعة للبابا، وينصرفون تحت قيادته إلى تعليم الشعب وصايا الله وعقائد الإيمان وتربية الأطفال.
وهكذا رُسمت خطوط الرهبنة التي سُميت رهبنة يسوع، فصارت جمعية رهبانية، فيها علاوة على النذور الثلاثة: الفقر والطاعة والعفة، نذر رابع هو الطاعة للبابا. وبعد التداول مدة ستة أشهر كتب أغناطيوس الانطاكي، ملخّصاً لقوانين الرهبنة ليقدمه للبابا، فأتت براءة التثبيت في 27/9/1540 وبعد سنة قُبل أغناطيوس الرئاسة العامة للرهبنة بعد أن اعتذر طويلاً بدافع من تواضعه.
فانطلقت الرهبنة اليسوعية، وحقلها العالم بأسره، وسلاحها محبة المسيح والطاعة له بشخص نائبه على الأرض بابا روما، وبرعاية رئيسها العام. وكأنها فرقة طوارئ أبداً مستعدة لتلبية حاجات الكنيسة ونداء رئيسها المنظور.
وخلال خمسة عشر عاماً قضاها أغناطيوس على رأس الرهبنة كان على صلة وثيقة مع كافة رهبانه من خلال رسائل كان يوجهها لكل واحد، من روما، بلغ عددها /6800/ رسالة، تحمل كلها توجيهات للآباء والأخوة وتشركهم في حياة الرهبنة. واستطاع في هذه الفترة إرساء أسس الرهبنة وتوزيع رهبانه في أرجاء العالم: في الهند واليابان وحتى أبواب الصين، وفي البرازيل والكونغو وموريتانيا وأثيوبيا وبولونيا وبوهيميا، بالإضافة إلى فرنسا والبرتوغال وألمانيا واسبانيا.
وحين توفي أغناطيوس في 31/7/1556 كان عدد رهبانه ألف راهب. مات وحيداً بلا مسحة مرضى أو بركة البابا، ولا كلمة وداع لذويه. هو لم يفاجأ بموته وإنما فاجأ الآخرين. وهكذا ختم بالتضحية حتى الموت حياته الخصبة.
ما خلّفه أغناطيوس لرهبنته: محبة سخية للمسيح، وغيرة متّقدة لخدمة الكنيسة، وانصياعاً مطلقاً لسلطة نائب المسيح على الأرض. هذه الغيرة حملت الرهبنة على التطوع لخدمة الإنسان في شتى الحقول: الروحية والفكرية والاجتماعية.
فكأنما الله أتاح للكنيسة والعالم في ظروف صعبة رهبانية جديدة أشبه بجيش أو بسريّة، من حيث انضباطها وطواعيتها، لتلبية حاجات الكنيسة في العالم كله. لها من الثقافة والروحانية والمرونة ما يمكّنها من التلاؤم وأوضاع وحاجات النفوس، وما يساعدها على التغلغل في شتى الأطر الاجتماعية والفكرية لنفحها بروح الانجيل.
وقد نعمنا في الشرق العربي بخدمات وتضحيات الرهبنة اليسوعية التي يدين لها اكليروسناً بنسبة عالية بثقافته الروحية واللاهوتية، بفضل جامعة القديس يوسف في بيروت التي كانت منارة ساطعة في هذه الربوع. كما أن دور الرهبنة في الحقل الفكري من حيث التأليف والنشر كان هاماً جداً من خلال مفكرّيها ومطبعتها.
وقد شهدت مدينة حلب أول وفود اليسوعيين إلى الشرق في عام 1625. وكان لهم اليد الطولى في شتى النشاطات الروحية والفكرية والتربوية، من تنظيم التعليم المسيحي في الرعايا والبيوت بدءاً من عام 1887، وتأسيس جمعية مار منصور في 24/7/1898، وافتتاح ثانوية القديس أغناطيوس، واحضار راهبات القلبين الأقدسين لفتح مدرسة الإناث، وتأسيس مدرسة القديس وارطان في الميدان، وإرشاد النادي الكاثوليكي. عدا نشاطاتهم في حقل الرياضيات الروحية ولقاءات الشبيبة والعائلات.
ولا ننسى ما تقوم به شعلة حلب برعاية الآباء اليسوعيين من الأب نيران إلى الأب دي ليو من عمل رسولي رائع في الريف المسيحي. وما تقوم به أيضاً الرهبنة على سبيل المثال لا الحصر من خدمات لبعض ا لرعايا المحرومة من تواجد كهنة، في الجبال المشرفة على تلكلخ وطرطوس واللاذقية.
نشكر الله مع آباء الرهبنة على ما أسبغه من نِعَم على رهبنة كانت ولا تزال بركة في الكنيسة. ونسأله تعالى أن يمدّها بعونه لمتابعة رسالتها لمجده تعالى وخير النفوس وازدهار الكنيسة. آمين