من أقوال الأب الروحاني المعروف بالشيخ
اقواله
فمُ العفيفِ يتكلمُ بالطيباتِ، ويلذِّذ صاحبَه، ويُفرِّح سامعيه. مَن كان كلامُه مرتباً وعفيفاً، وهو طاهرٌ بقلبهِ، فهو ابنُ ميراثِ المسيحِ، ومن كان كلامُه بقلقٍ ومعكَّر بالحردِ، فهو شيطانٌ ثانٍ. فمُ الطاهرِ النفسِ يتكلمُ كلَّ ساعةٍ على خالقِهِ، ومن يسمعه يفرحُ ويقتدي به. فمُ الجاهلِ يفيضُ مرارةً، ويقتلُ صاحبَهُ، ويُسكِرُ الذين ينصتون له، وما أوفق ذلك اللقب الذي أعطاه له سليمان، إذ لقَّبه بالخنزير، يا ربُّ خلصني من لقائهِ.
من يترحم على إنسانٍ، فإنَّ بابَ الربِّ مفتوحٌ لطلباتِه في كلِّ ساعةٍ. ذو الإفراز، بكسرةِ خبزٍ يشتري لنفسِه الملكوتَ، ومن يفرق مالَه بغير إفرازٍ، فباطلٌ هو عمله. من يُكثِر كلامَه، ويرفع صوتَه، فهو ناقصُ الرأي. الذي يلطِّف كلامَه ويتماكر ليضرَّ فهو شيطانٌ ثانٍ. من يصنع صلحاً بين الحرودين، ابن الله يُدعى، ومن يسجس ويعكِّر ويوصِّل كلاماً شريراً من واحدٍ إلى واحدٍ، فهو رسولُ الشيطانِ، وهذا تبيده النار.
من يفرحُ بحسناتِ كلِّ الناسِ، تفيضُ عليه الحسناتُ من الربِّ، ومن يَحزن بصلاحِ حالِ الآخرين، فليس بعد ذلك من شرٍّ، وبسرعةٍ يكون انكساره. الذي يتوب عن سيئاته، ولا يعود إليها أيضاً، حتى ولو كانت قبيحةً سمجةً، أكثر من خطايا السدوميين، ويُظهر من أجلِها وجعَ قلبٍ وندامةً ودموعاً، وبالجملةِ يقطعُ منه كلَّ الشرورِ، فمن ساعتِه يُولدُ من الروحِ القدس، ويكونُ من أحباءِ الله الخصوصيين، وبدالةٍ يأخذُ طهارةً معتوقةً من خزي المجرمين، وتُعادُ إليه بتوليةٌ لم تتدنس البتة، ويُدعى زرعاً إلهياً لم يخطئ قط، ويقبل في قلبهِ عربوناً بثباتِ رجائهِ، وتعطيه الرحمةُ الأبويةُ ثقةً واتكالاً ونسياناً للخطيةِ بالكمالِ من قلبهِ كأنها لم تكن.
أيتها الرحمةُ الفائضةُ، ما أوفرك يا مَن أَعطيتِ لنا نحن الموتى بالخطايا رَحِماً مقدساً الذي هو التوبةُ، يلد بنينَ جدداً من عتقٍ، أطهاراً من أنجاسٍ، منيرين من مظلمين. من لا يعجب من رحمتِك يا ربنا؟ ومن لا يعترف لنعمتِك؟ يا من أتيتَ إلى الميلادِ لتلدنا من بطنِ التوبةِ على شبهك كشبه مريم والدتك. السُبح لك يا آب الكلِّ، يا من أعطيتنا أمًّا جديدة بالميلادِ الجديد، وإن كنا بصبوتنا قد تنجسنا بكل نتنٍ، لكنها تُجلِّي وتطهِّر، وتحسِّن، وتغطي تحت أطرافِها مثل المربية، أولئك الذين وُلدوا منها حتى يصلوا إلى عندك محبوبين وأحباء، ليكونوا آلهةً وملوكاً، بنينَ لربوبيتك.
وإن كنتَ يا أخي تقول: «كيف تقدرُ التوبةُ أن تجددَ الإنسانَ الذي قد تدنس وفسد بالخطيةِ؟» فأقول لك: «اذكر تكوينَه الأول، ومِن أيِّ شيءٍ صار، أعني من شيءٍ حقيرٍ وسمجٍ في البطنِ الضيقِ المظلمِ، وكما رَكَّبت نعمةُ إلهنا المادةَ المنتنةَ في البطنِ المظلمةِ مكملةً تكوينَه، وأخرجته إلى نورِ هذا العالمِ. كذلك الذي أفسدَ طهارتَه بعد المعموديةِ بفعلِ الشيطانِ، واتسخ بجميعِ جراحاتِ الخطيةِ النجسةِ، بالميلادِ من حِضْنِ التوبةِ الكئيب المظلم، يخرجُ لنورِ عالمِ الروح، الذي أخذ سرَّه بالمعموديةِ المقدسةِ».
«وكما أن ذلك المني السمج، إن رُمي في أرضٍ واسعةٍ مضيئةٍ، ولم يدخل البطنَ الضيقَ المظلم، يكون بلا منفعةٍ ولا يتشبه بالذي ولده، هكذا الذي تسمج بالخطيةِ، إذا لم يدخل البطنَ (أي التوبة) الضيق المظلم، فإنه يكون بلا منفعةٍ، وغيرَ متشبه بمن ولده في المعموديةِ المقدسةِ. وكما أن آدم الجَسَدَاني، من حواء يُولد له بنون بشبهِه لعالمِه الجسدي، كذلك المسيح، آب العالم الروحاني، من المعموديةِ والتوبةِ، يُولد له بنون بشبهِه للعالم الروحاني، كما ينادي لهم رأسُ حياتهم قائلاً: توبوا، فقد اقترب ملكوتُ السماوات».
«فكيف نجدها إن كانت قريبةً؟ يا أبانا أرنا إياها». «إنها على البابِ اللطيفِ الضيق، وكلُّ من يصبر لصعوبته المظلمة، ويخرج منه، لوقته يلقَى ملكوت النورِ ويتنعم، وذلك الباب الذي لمدخل الحياة، فإنه في أيِّ بلدٍ يوجد داخلكم، وبابها هذا، هو التوبةُ. إن التوبةَ تعيد حياةَ المعموديةِ التي للغفرانِ، وكما أن المني الحقير بالبطنِ المظلمةِ يقتني شبه أقنوم آدم، كذلك والإنسان السمج بالخطيةِ، إن كان يدخلُ لكورِ غليان التوبةِ، يَجلَى ويَطهُر ويقتني بالنعمةِ المجدِّدة، شبهَ حُسنِ المسيح شعاع الآب».
«التوبةُ هي أمُ الحياةِ، وطوبى لمن يُولد منها، فإنه لا يموت. وكما ينادي المسيحُ لخواصِّه بالتوبةِ، كذلك يُبعدُ الشيطانُ الناسَ عن سماعِ هذا النداءِ، وبالشطارةِ واللهو يغطي قلوبَهم».
«التوبةُ هي ترياقٌ لأوجاعِ الخطيةِ القاتلة، وعذابٌ عظيمٌ للشيطانِ مضادها. إنها تُخلِّصُ وتعتق المسبيين الذين سُبوا بشرِّهِ، وأتعابُه التي تعبها في سنين كثيرةٍ، تُضيِّعها التوبةُ في ساعةٍ واحدةٍ، والعبيدُ الذين بمشيئتِهم أخضعوا حريتَهم له، تعيدُهم إلى ميراثِهم، وتعذِّب مَن خدعوهم. زرعُ الشوكِ الذي زُرع بأرضنا، ورُبيَ بحرصٍ في سنين كثيرةٍ، في يومٍ واحدٍ تحرقه، وتطهِّر أرضَنا، حتى تعطي أثمارَ زرعِ فلاح المسيح ثلاثين وستين ومائة. الحصون التي بناها في زمانٍ طويلٍ، ليسجنَ فيها أسراه، الذين سُبوا في الظلمةِ، بقمرٍ صغيرٍ يشعُّ فيها فتُهدَم، ويشرق النورُ في وجوهِ الجالسين في الظلمةِ، ورباطاتهم تنقطعُ، وأحزانُهم تُستبدل بالسرورِ، ودموعُهم بالفرحِ، أما رابطهم، فإنه يُربط بسيورِ الظلمةِ، ويُسلَّم بأيديهم للعذابِ. كلُّ فلاحتِهِ تفسدُ، وكلُّ الأوجاعِ التي صنعها بغيرِ عبيدِه، تطيبُ وتُشفى، وكلُّ قتلاه يقومون، وكلُّ فخاخهِ تنكسر، وكلُّ أشراكِهِ تقطع، وتهيئ الطريقَ قدام محبيه، حتى يمشوا بلا عثرةٍ في طريقِ المسيحِ واهبها».
«إنها (التوبةُ) تجعل الزناةَ بتوليين، كما تَجلي النوراني الذي علاه الصدأُ. إنها من الماخورِ إلى البريةِ تجتذبُ لعملِ الملائكةِ، والمضيئون الذين حقَّروها تركتهم، فنزلوا إلى الجحيم السفلي. هي تَدخلُ إلى مخادع الزانياتِ، وتجتذب الزناة، وتلدهم من حضنها بتوليين للمسيحِ. تردُّ الكافرين إلى الرسوليةِ، والرسل الذين نزعوها لبسوا الظلمةَ. إنها لِباسُ العالي، وللابسيه تُلبس مجدَ يسوعِ رداءً. هي تجتذبُ من الطرقاتِ إلى الملكوتِ، ومن بين السياجات تُدخل إلى العرسِ. إنها من السوءِ تصونُ المضيئين، وتجعلُ العميان مبصرين. هي تقلع الشجرةَ التي أثمارُها سمُّ الموتِ، وشجرةُ الحياةِ تُغرس بفردوسنا. هي حاملةٌ براحتِها طيبات النعمةِ، والذين نتنوا بالنجاسةِ، إن قبلوها تطيب. إنها قائمةٌ ببابِ الختن السماوي، وكلُّ من عبر بها استقبل وجهَه بيدِها، ووضعوا إكليلَ العرسِ، وكلُّ من تطامن قدامها، جعلته متكئاً في الحَجلةِ، بيدها وضعوا مفاتيحَ ملكوت السماواتِ، فكلُّ من أحبها وعشقها جعلته أميناً».
«هي هي أمُّ النورِ، وكلُّ من وُلد منها، أنبتت له أجنحةً من نارٍ، ومع الروحانيين يطيرُ إلى العلا، وكلُّ من نَتَفَ الصيادون ريشَه، واستتر تحت أحضانها أياماً قلائل، أخذ منها ريشاً طياراً نارياً، أفضل وأخف من الأول».
هي هي ملحمةُ الطبِ السماوي، ومن وضعها على وجههِ برئ لوقته، لا تقطع بموسى ولا تُصعِّب الأوجاعَ بالكي. بالرحمةِ مخلوطٌ أدويتها، وباللين تجبرُ الانكسارَ. سمُّ الموتِ واللهو والشغب، هذه بيديْ الشيطان، أما التوبةُ فهي ترياقُ الحياةِ بيد اللهِ، وكلُّ من سبق وشرب من كأسِ القاتلِ، يتقدم ويشرب من كأسِ المحيي للكلِّ، فيعيش بلا نهايةِ. إنها تزورُ الأمواتَ، وكلُّ من بلعَه الموتُ، ودنا من أحضانِها، شقَّت الموتَ وأخرجته من جوفِه. ترى العُمي كلَّ يومٍ يبكون على بابها، فتجتذبهم وتريهم نورَ الفرح. ترى القتلى الذين قتلهم الشيطانُ، وتستدعيهم لتقيمهم قيامةً متقدمةً. هي خزانةُ بني مخلصنا، وفيها يحفظُ جميعَ غنى أعمالهم. هي بحرٌ لغسلِ جميعِ النجسين، وكورٌ، غليانُه يَجلي كلَّ من علاه الصدأ. هي نارٌ محرقةٌ للزوان، ومياهٌ تربي الزروعَ المقدسةَ. هي فردوسٌ يطيب الخواص، وتخرِّب وتهدم جميعَ العُصاة. إنها أرضٌ تربي بني النور، والمطهرةُ بيدِها الذي يتنجس. هي مولِّدةٌ لأجنةِ بني العلي، ومربيةٌ لتابعي المسيح. إنها حصنٌ تحفظُ كلَّ ما بداخله، وجبارٌ يردُّ كلَّ ما سُبي. هي هيكلٌ للأممِ الطاهرةِ، ومنها يأخذون قدساً لقدسهم. هي بيتٌ وملجأٌ للأشقياءِ، فتجعلهم وارثين للملكوتِ. هي خزانةٌ لجميعِ الكنوزِ، فكلُّ من قرع بابها، أخذ منها حاجتَه. هي والدةٌ لم يجف حضنها، وكلُّ من كان عاقراً وقرب منها، أخذ له منها أولاداً محبوبين. هي بوابةٌ قائمةٌ ببابِ الخالق، وكلُّ من وجب عليه الحكمُ وتقرَّب سائلاً إياها، دخلت وحلَّته. بيدها موضوع رشاش الماء، وبلوغ إدرار المطر، فمن دخل والتجأ بها، فتحت ورَوَتْهُ. إنها تقوم ببابِ الله، وكلُّ الخيرات التي تخرج من عنده، تجتذبها لخواصها. هي شفيعةُ المسبيين، فإذا تقدموا وسألوها تقوم لحمايتهم وتعتذر عنهم».
«فمن ذا الذي لا يحبك أيتها التوبة، يا حاملة جميع التطويبات، إلا الشيطان، لأنك غنمت غناه، وأضعت قناياه، وجعلتِهِ فقيراً معذباً من كسبهِ، وفارغاً من الإرثِ الذي سباه بغير حقٍ. ذاك هو مبغضُك بالحقِ، لأنك دائماً تضادينه، فما من إنسانٍ وقع بين يديه، ولحقتِ به، وصار فريسةً لغذائه؛ وما من إنسانٍ دعاكِ وهو بين أسنانه، إلا وتكسرين أسنانه، وتخلصيه. كما أنه ما من أحدٍ بلعه، فصرخ نحوك، إلا وشققتِ بطنه وأخرجتِهِ، وما من شخصٍ ربطه، إلا وعاجلاً قطعتِ أغلالَه وحللتِهِ. وما من إنسانٍ صاده وأنت بعيدة، ودعاك، إلا وبسرعةٍ لحقتِ به وخلصتِهِ. من أجل هذا، هو يبغضُكِ، لأنك بالأكثر أبغضتِهِ، يبغضُكِ لأنك كلَّ حينٍ تقفين ضده. يبغضُكِ لأنه مبغضٌ لمعطيكِ، وأنتِ أيضاً ضده كما أن صاحبَك ضده كذلك».
«ليس مَن تمسَّك برجائِك، ونزل إلى الجحيمِ، ولا مَن صعد إلى السماءِ بدونِك. من يرى اللهَ بغيرِك؟ مَن تمسَّك برجائك ووقع في يدِ الشيطانِ؟ ومَن تطهَّر ولم تكوني أنت التي غسلتِهِ؟ مَن تقدم لمطهرتك، ووُجدَ فهي نجاسةٌ؟ مَن الذي سقى زرعَه من مطرِك، ولم يحصد منه أثمارَ الفرحِ؟ مَن ذا الذي تقدَّم لطبك، ولم يكن بعيداً من كلِّ العاهات؟ ومن صبغَ كلَّ ساعةٍ وجهَه بقطراتك، ولم يبصر اللهَ في قلبهِ؟ مَن ذا الذي عدم تذوق مشروبك ولم يبصر قلبُه ينبوعَ الظلامِ؟ من نال طلباته ولم تكوني أنتِ التي رفعتِ من شأنه؟ مَن اتخذك شفيعةً ولم تفتحي أمامَه أبوابَ خزائنِ الله؟ ليس مَن أخذك معه في القتالِ، إلا وأسلمت أعداءَه تحت حربتِه. ليس من لبسك مقابل مضاديه، إلا وانهزم قدامه مبغضوه».
«أنتِ خلصتِ داودَ من الخطيةِ، وأنتِ التي وقفتِ في وجهِ أخآب الكافر. صعد الحكمُ على أهلِ نينوى بالهلاكِ، ولكنكِ تجبرتِ وقمتِ وخلصتِهم. مباركةٌ أنت يا أمُّ الغفرانِ، يا من أعطانا إياك الآبُ المملوءُ رحمةً، لا يغضبك إذا طلبت إليه، لأنه أعطاك أن تكوني شفيعةً للخطاةِ، لا يغلق بابه إن سألتِهِ، سلَّم لكِ مفاتيح الملكوت».
«لقد اقترب الملكوت، فتوبوا فها هو الخاتم الذي يأخذه معه الوارثون للملكوتِ، توبوا فقد قَرُبَ الملكوت. الجيلُ القديم الذي لم يشرب مشروبك خنقه سَخطُ الطوفانِ، سادوم التي لم تُرِد أن تَقبلكِ، أحرقتها النارُ السماوية. فرعون الذي طردك من عنده، تعذَّب في الأمواجِ الخانقةِ».
«إنها تردُّ الأتعابَ التي ضيعها الشيطانُ، وتعطي العطايا السماوية. هي التي تجدد البتوليةَ التي اتسخت، وتحفظ بلا عيبٍ تلك التي لم تفسد بعد. المسيحُ جاء وخلَّصنا، وبصوتِه نادانا قائلاً: توبوا فقد اقتربَ الملكوت. له المجد إلى الأبد آمين».
وقال أيضاً: «من يَحذَر بلسانهِ، فلن يُسلَب كنزُه منه إلى الأبدِ. فمُ الساكتِ يُترجمُ أسرارَ اللهِ، ومن يتكلم بسرعةٍ، يُبعد عنه خالقَه. من يستهين بذاته ويرذلها، يتحكم من اللهِ، ومن يَحسبُ نفسَه حكيماً، ترتفع منه حكمةُ الخالقِ. المسكينُ من متاعِ الدنيا، يستغني باللهِ. وصديقُ الأغنياءِ يتمسكن مما للربِ. من اعتاد كلامَ اللعبِ مفرِّجاً عن جسدِه ونفسِه، فذاك زانٍ، ومن يستأنس به فهو فاسق. المحبةُ المفرِزة للصبيان، هي زنى سمج أمام الربِّ، ولا يوجد جبرٌ لانكسارهِ. شابٌ يصاحب شاباً، فليبكِ عليهما ذوو الإفرازِ. الشيخُ الذي يحبُ صُحبةَ الصبيانِ، اعلم أن أوجاعَه أنجس من الصبيانِ النجسين؛ وإن كان يكلمهم بالأعاجيب، لكن قلبَه بالحمأةِ غارقٌ. يا أخي، إن عشتَ للعالمِ، فسوف تصبح حياً للعالمِ. واحدٌ بواحدٍ، فإن اثنين لا يوجدان مثل الكلمة الوحيد الذي له المجد إلى الأبد آمين».
وقال كذلك مما سَمع من الشيوخِ، أن واحداً منهم قال له: «في أيامٍ كثيرةٍ يَظهرُ لي أنّ استعمالَ الأطعمةِ زيادةٌ وفضولٌ، لأن حبَّ ربي يُكمِّل لي حاجتي، ويُنسيني الاهتمام بها».
كما قال أيضاً: «محبةُ المسيح غرَّبتني عن البشر والبشريات».
وقال آخر: «في خدمتي وصلاتي لستُ أعرفُ تعباً، لأنه ليست فيها حركةٌ من هواي، بل أظلُّ منصتاً للروحِ الساكن فيَّ وأتلذذ، وهذا هو المقصود بما قيل: إنّ الروحَ يصلي بدلاً عنا».
وقال شيخٌ آخر: «إن كان لسانُك غزيراً بحركاتِه، فقد انطفأت من قلبك الحركاتُ الطاهرةُ، أما إن كان لسانُك ساكتاً، وقلبُك يغلي بالحركاتِ الطاهرةِ، فطوباك، لأن حركتَه بالروحِ ترفعُك إلى هدوءِ الحياةِ. سكِّت لسانَك ليسكت قلبُك، وسكِّت قلبَك ليتكلم فيه الروحُ».
وقال آخر: «جاهلٌ، ذاك الذي يوجد في ذِكرهِ شيءٌ من العالمِ، ما خلا الميراث الذي يأخذه، أعني القبرَ فقط»، كما قال أيضاً: «إن كنتَ بالمسيحِ وُلدتَ، فكذلك أخوك، وعلى ذلك فأكثر من أخيك لا تحب نفسَك في شيءٍ ما».
وقال أيضاً: «إن كانت شهوتُك عالميةً، فهذه أيضاً كالكلابِ والخنازير، أعني بذلك (شهوةَ) البطنِ والزواج. أما إن كانت شهوتُك باللهِ، فهذه هي شهوةُ الملائكةِ».
كذلك قال: «إنه هوى شيطاني بالراهبِ، الذي يحتفظُ لديه بقوتٍ غير قليل، ذلك لأنه يذخر ما لا حاجة به إليه، أما الصدِّيقُ فإنه يُلقي على الربِ همَّه، وبغيرِ همٍّ يفرقُ، من أجلِ ذلك فَيَدُ الربِ مفتوحةً قدامه وهي ممتلئةً، فيأخذَ ويعطي بسذاجةٍ بغيرِ فكرٍ. من يحفظ شيئاً زائداً لينيِّح به المحتاجين فهو حكيمٌ بحقٍ. من أجلِ هذا، إذ تَفرُغ يده، تجدها تمتلئُ كلَّ ساعةٍ، لأنه إذ أعطى، فله أن يأخذَ أيضاً. من ينيح آخر في ضيقته، فله هو أيضاً من يَهَبه نياحَ الحياةِ».
كما قال أيضاً: «الاتضاعُ هو أرضٌ حاملةٌ للفضائلِ، فإن هي عدمت الفضائل، فبالكمال قد هلكت».
ثم قال أيضاً: «وكما أن حمارَ المسكينِ، لكونه لا يجدُ قوتاً ليَشبعَ به، يُصبحُ هزيلاً ضعيفاً فتنطفئ منه شهوة الجماع، وإذا ركبه صاحبُه، سار به ذليلاً سهلَ الانقيادِ بسببِ خساسةِ مركوبه، هكذا الراهبُ الذي يقمعُ جسدَه بنقصِ القوتِ وخساسةِ الملبس، فإن الشهوةَ العالميةَ تنطفئ من جسدِه، ونفسُه تتضع بلا افتخارٍ».
«ليس هناك شفاءٌ لوجعِ المفتخر، لأنه بقدرِ ما يتعالى بأفكارِه بقدر ما ترتفع معرفةُ الله عن نفسِه، وإلى عمقِ الظلمةِ يهبطُ».
اقواله
فمُ العفيفِ يتكلمُ بالطيباتِ، ويلذِّذ صاحبَه، ويُفرِّح سامعيه. مَن كان كلامُه مرتباً وعفيفاً، وهو طاهرٌ بقلبهِ، فهو ابنُ ميراثِ المسيحِ، ومن كان كلامُه بقلقٍ ومعكَّر بالحردِ، فهو شيطانٌ ثانٍ. فمُ الطاهرِ النفسِ يتكلمُ كلَّ ساعةٍ على خالقِهِ، ومن يسمعه يفرحُ ويقتدي به. فمُ الجاهلِ يفيضُ مرارةً، ويقتلُ صاحبَهُ، ويُسكِرُ الذين ينصتون له، وما أوفق ذلك اللقب الذي أعطاه له سليمان، إذ لقَّبه بالخنزير، يا ربُّ خلصني من لقائهِ.
من يترحم على إنسانٍ، فإنَّ بابَ الربِّ مفتوحٌ لطلباتِه في كلِّ ساعةٍ. ذو الإفراز، بكسرةِ خبزٍ يشتري لنفسِه الملكوتَ، ومن يفرق مالَه بغير إفرازٍ، فباطلٌ هو عمله. من يُكثِر كلامَه، ويرفع صوتَه، فهو ناقصُ الرأي. الذي يلطِّف كلامَه ويتماكر ليضرَّ فهو شيطانٌ ثانٍ. من يصنع صلحاً بين الحرودين، ابن الله يُدعى، ومن يسجس ويعكِّر ويوصِّل كلاماً شريراً من واحدٍ إلى واحدٍ، فهو رسولُ الشيطانِ، وهذا تبيده النار.
من يفرحُ بحسناتِ كلِّ الناسِ، تفيضُ عليه الحسناتُ من الربِّ، ومن يَحزن بصلاحِ حالِ الآخرين، فليس بعد ذلك من شرٍّ، وبسرعةٍ يكون انكساره. الذي يتوب عن سيئاته، ولا يعود إليها أيضاً، حتى ولو كانت قبيحةً سمجةً، أكثر من خطايا السدوميين، ويُظهر من أجلِها وجعَ قلبٍ وندامةً ودموعاً، وبالجملةِ يقطعُ منه كلَّ الشرورِ، فمن ساعتِه يُولدُ من الروحِ القدس، ويكونُ من أحباءِ الله الخصوصيين، وبدالةٍ يأخذُ طهارةً معتوقةً من خزي المجرمين، وتُعادُ إليه بتوليةٌ لم تتدنس البتة، ويُدعى زرعاً إلهياً لم يخطئ قط، ويقبل في قلبهِ عربوناً بثباتِ رجائهِ، وتعطيه الرحمةُ الأبويةُ ثقةً واتكالاً ونسياناً للخطيةِ بالكمالِ من قلبهِ كأنها لم تكن.
أيتها الرحمةُ الفائضةُ، ما أوفرك يا مَن أَعطيتِ لنا نحن الموتى بالخطايا رَحِماً مقدساً الذي هو التوبةُ، يلد بنينَ جدداً من عتقٍ، أطهاراً من أنجاسٍ، منيرين من مظلمين. من لا يعجب من رحمتِك يا ربنا؟ ومن لا يعترف لنعمتِك؟ يا من أتيتَ إلى الميلادِ لتلدنا من بطنِ التوبةِ على شبهك كشبه مريم والدتك. السُبح لك يا آب الكلِّ، يا من أعطيتنا أمًّا جديدة بالميلادِ الجديد، وإن كنا بصبوتنا قد تنجسنا بكل نتنٍ، لكنها تُجلِّي وتطهِّر، وتحسِّن، وتغطي تحت أطرافِها مثل المربية، أولئك الذين وُلدوا منها حتى يصلوا إلى عندك محبوبين وأحباء، ليكونوا آلهةً وملوكاً، بنينَ لربوبيتك.
وإن كنتَ يا أخي تقول: «كيف تقدرُ التوبةُ أن تجددَ الإنسانَ الذي قد تدنس وفسد بالخطيةِ؟» فأقول لك: «اذكر تكوينَه الأول، ومِن أيِّ شيءٍ صار، أعني من شيءٍ حقيرٍ وسمجٍ في البطنِ الضيقِ المظلمِ، وكما رَكَّبت نعمةُ إلهنا المادةَ المنتنةَ في البطنِ المظلمةِ مكملةً تكوينَه، وأخرجته إلى نورِ هذا العالمِ. كذلك الذي أفسدَ طهارتَه بعد المعموديةِ بفعلِ الشيطانِ، واتسخ بجميعِ جراحاتِ الخطيةِ النجسةِ، بالميلادِ من حِضْنِ التوبةِ الكئيب المظلم، يخرجُ لنورِ عالمِ الروح، الذي أخذ سرَّه بالمعموديةِ المقدسةِ».
«وكما أن ذلك المني السمج، إن رُمي في أرضٍ واسعةٍ مضيئةٍ، ولم يدخل البطنَ الضيقَ المظلم، يكون بلا منفعةٍ ولا يتشبه بالذي ولده، هكذا الذي تسمج بالخطيةِ، إذا لم يدخل البطنَ (أي التوبة) الضيق المظلم، فإنه يكون بلا منفعةٍ، وغيرَ متشبه بمن ولده في المعموديةِ المقدسةِ. وكما أن آدم الجَسَدَاني، من حواء يُولد له بنون بشبهِه لعالمِه الجسدي، كذلك المسيح، آب العالم الروحاني، من المعموديةِ والتوبةِ، يُولد له بنون بشبهِه للعالم الروحاني، كما ينادي لهم رأسُ حياتهم قائلاً: توبوا، فقد اقترب ملكوتُ السماوات».
«فكيف نجدها إن كانت قريبةً؟ يا أبانا أرنا إياها». «إنها على البابِ اللطيفِ الضيق، وكلُّ من يصبر لصعوبته المظلمة، ويخرج منه، لوقته يلقَى ملكوت النورِ ويتنعم، وذلك الباب الذي لمدخل الحياة، فإنه في أيِّ بلدٍ يوجد داخلكم، وبابها هذا، هو التوبةُ. إن التوبةَ تعيد حياةَ المعموديةِ التي للغفرانِ، وكما أن المني الحقير بالبطنِ المظلمةِ يقتني شبه أقنوم آدم، كذلك والإنسان السمج بالخطيةِ، إن كان يدخلُ لكورِ غليان التوبةِ، يَجلَى ويَطهُر ويقتني بالنعمةِ المجدِّدة، شبهَ حُسنِ المسيح شعاع الآب».
«التوبةُ هي أمُ الحياةِ، وطوبى لمن يُولد منها، فإنه لا يموت. وكما ينادي المسيحُ لخواصِّه بالتوبةِ، كذلك يُبعدُ الشيطانُ الناسَ عن سماعِ هذا النداءِ، وبالشطارةِ واللهو يغطي قلوبَهم».
«التوبةُ هي ترياقٌ لأوجاعِ الخطيةِ القاتلة، وعذابٌ عظيمٌ للشيطانِ مضادها. إنها تُخلِّصُ وتعتق المسبيين الذين سُبوا بشرِّهِ، وأتعابُه التي تعبها في سنين كثيرةٍ، تُضيِّعها التوبةُ في ساعةٍ واحدةٍ، والعبيدُ الذين بمشيئتِهم أخضعوا حريتَهم له، تعيدُهم إلى ميراثِهم، وتعذِّب مَن خدعوهم. زرعُ الشوكِ الذي زُرع بأرضنا، ورُبيَ بحرصٍ في سنين كثيرةٍ، في يومٍ واحدٍ تحرقه، وتطهِّر أرضَنا، حتى تعطي أثمارَ زرعِ فلاح المسيح ثلاثين وستين ومائة. الحصون التي بناها في زمانٍ طويلٍ، ليسجنَ فيها أسراه، الذين سُبوا في الظلمةِ، بقمرٍ صغيرٍ يشعُّ فيها فتُهدَم، ويشرق النورُ في وجوهِ الجالسين في الظلمةِ، ورباطاتهم تنقطعُ، وأحزانُهم تُستبدل بالسرورِ، ودموعُهم بالفرحِ، أما رابطهم، فإنه يُربط بسيورِ الظلمةِ، ويُسلَّم بأيديهم للعذابِ. كلُّ فلاحتِهِ تفسدُ، وكلُّ الأوجاعِ التي صنعها بغيرِ عبيدِه، تطيبُ وتُشفى، وكلُّ قتلاه يقومون، وكلُّ فخاخهِ تنكسر، وكلُّ أشراكِهِ تقطع، وتهيئ الطريقَ قدام محبيه، حتى يمشوا بلا عثرةٍ في طريقِ المسيحِ واهبها».
«إنها (التوبةُ) تجعل الزناةَ بتوليين، كما تَجلي النوراني الذي علاه الصدأُ. إنها من الماخورِ إلى البريةِ تجتذبُ لعملِ الملائكةِ، والمضيئون الذين حقَّروها تركتهم، فنزلوا إلى الجحيم السفلي. هي تَدخلُ إلى مخادع الزانياتِ، وتجتذب الزناة، وتلدهم من حضنها بتوليين للمسيحِ. تردُّ الكافرين إلى الرسوليةِ، والرسل الذين نزعوها لبسوا الظلمةَ. إنها لِباسُ العالي، وللابسيه تُلبس مجدَ يسوعِ رداءً. هي تجتذبُ من الطرقاتِ إلى الملكوتِ، ومن بين السياجات تُدخل إلى العرسِ. إنها من السوءِ تصونُ المضيئين، وتجعلُ العميان مبصرين. هي تقلع الشجرةَ التي أثمارُها سمُّ الموتِ، وشجرةُ الحياةِ تُغرس بفردوسنا. هي حاملةٌ براحتِها طيبات النعمةِ، والذين نتنوا بالنجاسةِ، إن قبلوها تطيب. إنها قائمةٌ ببابِ الختن السماوي، وكلُّ من عبر بها استقبل وجهَه بيدِها، ووضعوا إكليلَ العرسِ، وكلُّ من تطامن قدامها، جعلته متكئاً في الحَجلةِ، بيدها وضعوا مفاتيحَ ملكوت السماواتِ، فكلُّ من أحبها وعشقها جعلته أميناً».
«هي هي أمُّ النورِ، وكلُّ من وُلد منها، أنبتت له أجنحةً من نارٍ، ومع الروحانيين يطيرُ إلى العلا، وكلُّ من نَتَفَ الصيادون ريشَه، واستتر تحت أحضانها أياماً قلائل، أخذ منها ريشاً طياراً نارياً، أفضل وأخف من الأول».
هي هي ملحمةُ الطبِ السماوي، ومن وضعها على وجههِ برئ لوقته، لا تقطع بموسى ولا تُصعِّب الأوجاعَ بالكي. بالرحمةِ مخلوطٌ أدويتها، وباللين تجبرُ الانكسارَ. سمُّ الموتِ واللهو والشغب، هذه بيديْ الشيطان، أما التوبةُ فهي ترياقُ الحياةِ بيد اللهِ، وكلُّ من سبق وشرب من كأسِ القاتلِ، يتقدم ويشرب من كأسِ المحيي للكلِّ، فيعيش بلا نهايةِ. إنها تزورُ الأمواتَ، وكلُّ من بلعَه الموتُ، ودنا من أحضانِها، شقَّت الموتَ وأخرجته من جوفِه. ترى العُمي كلَّ يومٍ يبكون على بابها، فتجتذبهم وتريهم نورَ الفرح. ترى القتلى الذين قتلهم الشيطانُ، وتستدعيهم لتقيمهم قيامةً متقدمةً. هي خزانةُ بني مخلصنا، وفيها يحفظُ جميعَ غنى أعمالهم. هي بحرٌ لغسلِ جميعِ النجسين، وكورٌ، غليانُه يَجلي كلَّ من علاه الصدأ. هي نارٌ محرقةٌ للزوان، ومياهٌ تربي الزروعَ المقدسةَ. هي فردوسٌ يطيب الخواص، وتخرِّب وتهدم جميعَ العُصاة. إنها أرضٌ تربي بني النور، والمطهرةُ بيدِها الذي يتنجس. هي مولِّدةٌ لأجنةِ بني العلي، ومربيةٌ لتابعي المسيح. إنها حصنٌ تحفظُ كلَّ ما بداخله، وجبارٌ يردُّ كلَّ ما سُبي. هي هيكلٌ للأممِ الطاهرةِ، ومنها يأخذون قدساً لقدسهم. هي بيتٌ وملجأٌ للأشقياءِ، فتجعلهم وارثين للملكوتِ. هي خزانةٌ لجميعِ الكنوزِ، فكلُّ من قرع بابها، أخذ منها حاجتَه. هي والدةٌ لم يجف حضنها، وكلُّ من كان عاقراً وقرب منها، أخذ له منها أولاداً محبوبين. هي بوابةٌ قائمةٌ ببابِ الخالق، وكلُّ من وجب عليه الحكمُ وتقرَّب سائلاً إياها، دخلت وحلَّته. بيدها موضوع رشاش الماء، وبلوغ إدرار المطر، فمن دخل والتجأ بها، فتحت ورَوَتْهُ. إنها تقوم ببابِ الله، وكلُّ الخيرات التي تخرج من عنده، تجتذبها لخواصها. هي شفيعةُ المسبيين، فإذا تقدموا وسألوها تقوم لحمايتهم وتعتذر عنهم».
«فمن ذا الذي لا يحبك أيتها التوبة، يا حاملة جميع التطويبات، إلا الشيطان، لأنك غنمت غناه، وأضعت قناياه، وجعلتِهِ فقيراً معذباً من كسبهِ، وفارغاً من الإرثِ الذي سباه بغير حقٍ. ذاك هو مبغضُك بالحقِ، لأنك دائماً تضادينه، فما من إنسانٍ وقع بين يديه، ولحقتِ به، وصار فريسةً لغذائه؛ وما من إنسانٍ دعاكِ وهو بين أسنانه، إلا وتكسرين أسنانه، وتخلصيه. كما أنه ما من أحدٍ بلعه، فصرخ نحوك، إلا وشققتِ بطنه وأخرجتِهِ، وما من شخصٍ ربطه، إلا وعاجلاً قطعتِ أغلالَه وحللتِهِ. وما من إنسانٍ صاده وأنت بعيدة، ودعاك، إلا وبسرعةٍ لحقتِ به وخلصتِهِ. من أجل هذا، هو يبغضُكِ، لأنك بالأكثر أبغضتِهِ، يبغضُكِ لأنك كلَّ حينٍ تقفين ضده. يبغضُكِ لأنه مبغضٌ لمعطيكِ، وأنتِ أيضاً ضده كما أن صاحبَك ضده كذلك».
«ليس مَن تمسَّك برجائِك، ونزل إلى الجحيمِ، ولا مَن صعد إلى السماءِ بدونِك. من يرى اللهَ بغيرِك؟ مَن تمسَّك برجائك ووقع في يدِ الشيطانِ؟ ومَن تطهَّر ولم تكوني أنت التي غسلتِهِ؟ مَن تقدم لمطهرتك، ووُجدَ فهي نجاسةٌ؟ مَن الذي سقى زرعَه من مطرِك، ولم يحصد منه أثمارَ الفرحِ؟ مَن ذا الذي تقدَّم لطبك، ولم يكن بعيداً من كلِّ العاهات؟ ومن صبغَ كلَّ ساعةٍ وجهَه بقطراتك، ولم يبصر اللهَ في قلبهِ؟ مَن ذا الذي عدم تذوق مشروبك ولم يبصر قلبُه ينبوعَ الظلامِ؟ من نال طلباته ولم تكوني أنتِ التي رفعتِ من شأنه؟ مَن اتخذك شفيعةً ولم تفتحي أمامَه أبوابَ خزائنِ الله؟ ليس مَن أخذك معه في القتالِ، إلا وأسلمت أعداءَه تحت حربتِه. ليس من لبسك مقابل مضاديه، إلا وانهزم قدامه مبغضوه».
«أنتِ خلصتِ داودَ من الخطيةِ، وأنتِ التي وقفتِ في وجهِ أخآب الكافر. صعد الحكمُ على أهلِ نينوى بالهلاكِ، ولكنكِ تجبرتِ وقمتِ وخلصتِهم. مباركةٌ أنت يا أمُّ الغفرانِ، يا من أعطانا إياك الآبُ المملوءُ رحمةً، لا يغضبك إذا طلبت إليه، لأنه أعطاك أن تكوني شفيعةً للخطاةِ، لا يغلق بابه إن سألتِهِ، سلَّم لكِ مفاتيح الملكوت».
«لقد اقترب الملكوت، فتوبوا فها هو الخاتم الذي يأخذه معه الوارثون للملكوتِ، توبوا فقد قَرُبَ الملكوت. الجيلُ القديم الذي لم يشرب مشروبك خنقه سَخطُ الطوفانِ، سادوم التي لم تُرِد أن تَقبلكِ، أحرقتها النارُ السماوية. فرعون الذي طردك من عنده، تعذَّب في الأمواجِ الخانقةِ».
«إنها تردُّ الأتعابَ التي ضيعها الشيطانُ، وتعطي العطايا السماوية. هي التي تجدد البتوليةَ التي اتسخت، وتحفظ بلا عيبٍ تلك التي لم تفسد بعد. المسيحُ جاء وخلَّصنا، وبصوتِه نادانا قائلاً: توبوا فقد اقتربَ الملكوت. له المجد إلى الأبد آمين».
وقال أيضاً: «من يَحذَر بلسانهِ، فلن يُسلَب كنزُه منه إلى الأبدِ. فمُ الساكتِ يُترجمُ أسرارَ اللهِ، ومن يتكلم بسرعةٍ، يُبعد عنه خالقَه. من يستهين بذاته ويرذلها، يتحكم من اللهِ، ومن يَحسبُ نفسَه حكيماً، ترتفع منه حكمةُ الخالقِ. المسكينُ من متاعِ الدنيا، يستغني باللهِ. وصديقُ الأغنياءِ يتمسكن مما للربِ. من اعتاد كلامَ اللعبِ مفرِّجاً عن جسدِه ونفسِه، فذاك زانٍ، ومن يستأنس به فهو فاسق. المحبةُ المفرِزة للصبيان، هي زنى سمج أمام الربِّ، ولا يوجد جبرٌ لانكسارهِ. شابٌ يصاحب شاباً، فليبكِ عليهما ذوو الإفرازِ. الشيخُ الذي يحبُ صُحبةَ الصبيانِ، اعلم أن أوجاعَه أنجس من الصبيانِ النجسين؛ وإن كان يكلمهم بالأعاجيب، لكن قلبَه بالحمأةِ غارقٌ. يا أخي، إن عشتَ للعالمِ، فسوف تصبح حياً للعالمِ. واحدٌ بواحدٍ، فإن اثنين لا يوجدان مثل الكلمة الوحيد الذي له المجد إلى الأبد آمين».
وقال كذلك مما سَمع من الشيوخِ، أن واحداً منهم قال له: «في أيامٍ كثيرةٍ يَظهرُ لي أنّ استعمالَ الأطعمةِ زيادةٌ وفضولٌ، لأن حبَّ ربي يُكمِّل لي حاجتي، ويُنسيني الاهتمام بها».
كما قال أيضاً: «محبةُ المسيح غرَّبتني عن البشر والبشريات».
وقال آخر: «في خدمتي وصلاتي لستُ أعرفُ تعباً، لأنه ليست فيها حركةٌ من هواي، بل أظلُّ منصتاً للروحِ الساكن فيَّ وأتلذذ، وهذا هو المقصود بما قيل: إنّ الروحَ يصلي بدلاً عنا».
وقال شيخٌ آخر: «إن كان لسانُك غزيراً بحركاتِه، فقد انطفأت من قلبك الحركاتُ الطاهرةُ، أما إن كان لسانُك ساكتاً، وقلبُك يغلي بالحركاتِ الطاهرةِ، فطوباك، لأن حركتَه بالروحِ ترفعُك إلى هدوءِ الحياةِ. سكِّت لسانَك ليسكت قلبُك، وسكِّت قلبَك ليتكلم فيه الروحُ».
وقال آخر: «جاهلٌ، ذاك الذي يوجد في ذِكرهِ شيءٌ من العالمِ، ما خلا الميراث الذي يأخذه، أعني القبرَ فقط»، كما قال أيضاً: «إن كنتَ بالمسيحِ وُلدتَ، فكذلك أخوك، وعلى ذلك فأكثر من أخيك لا تحب نفسَك في شيءٍ ما».
وقال أيضاً: «إن كانت شهوتُك عالميةً، فهذه أيضاً كالكلابِ والخنازير، أعني بذلك (شهوةَ) البطنِ والزواج. أما إن كانت شهوتُك باللهِ، فهذه هي شهوةُ الملائكةِ».
كذلك قال: «إنه هوى شيطاني بالراهبِ، الذي يحتفظُ لديه بقوتٍ غير قليل، ذلك لأنه يذخر ما لا حاجة به إليه، أما الصدِّيقُ فإنه يُلقي على الربِ همَّه، وبغيرِ همٍّ يفرقُ، من أجلِ ذلك فَيَدُ الربِ مفتوحةً قدامه وهي ممتلئةً، فيأخذَ ويعطي بسذاجةٍ بغيرِ فكرٍ. من يحفظ شيئاً زائداً لينيِّح به المحتاجين فهو حكيمٌ بحقٍ. من أجلِ هذا، إذ تَفرُغ يده، تجدها تمتلئُ كلَّ ساعةٍ، لأنه إذ أعطى، فله أن يأخذَ أيضاً. من ينيح آخر في ضيقته، فله هو أيضاً من يَهَبه نياحَ الحياةِ».
كما قال أيضاً: «الاتضاعُ هو أرضٌ حاملةٌ للفضائلِ، فإن هي عدمت الفضائل، فبالكمال قد هلكت».
ثم قال أيضاً: «وكما أن حمارَ المسكينِ، لكونه لا يجدُ قوتاً ليَشبعَ به، يُصبحُ هزيلاً ضعيفاً فتنطفئ منه شهوة الجماع، وإذا ركبه صاحبُه، سار به ذليلاً سهلَ الانقيادِ بسببِ خساسةِ مركوبه، هكذا الراهبُ الذي يقمعُ جسدَه بنقصِ القوتِ وخساسةِ الملبس، فإن الشهوةَ العالميةَ تنطفئ من جسدِه، ونفسُه تتضع بلا افتخارٍ».
«ليس هناك شفاءٌ لوجعِ المفتخر، لأنه بقدرِ ما يتعالى بأفكارِه بقدر ما ترتفع معرفةُ الله عن نفسِه، وإلى عمقِ الظلمةِ يهبطُ».